اشتبك الداي حسين باشا مع السفير الفرنسي في مشادّة كلامية, وشيئاً فشيئاً استفزَّ السفير الداي, فضربه الداي بكشاشة الذباب فأرغى وأزبد وقال متوعداً )ستدفع ثمن هذه الإهانة غالياً أنت وبلدك) أجابه الداي بسدور
بلِّط البحر) وركب السفير البحر, وعاد إلى بلاده محشوَّاً بالغيظ.
الفرنسيون يعرفون أن حسين باشا انفعالي, فوضعوا خطتهم المركزة, أما الباشا فلم يخطر له أن السفير الفرنسي كان يستفزه عن عمد وسبق الإصرار, وأما العبارةُ التي خرجت من بين شفتيه تحمل قَدْراً من الهُزْء والتَّحدي قد لاتكون )بلِّط البحر), والحقيقة لو كان الباشا ماكراً لانهال على السفير بعبارات طَلْقة ماكرة بيد أنه لم يجد في جعبته سوى كشاشة الذباب و)بلط البحر) ظاناً أنها معجزة مطمئناً أن فرنسا غير قادرة على تبليط البحر.
بيد أن فرنسا لم تبلِّط البحر, وإنما كانت كشاشة ذبابها التي ردَّت بها الضربة جيشاً عَرَمْرَماً احتل الجزائر في عام 1830م ثم ادعت أن الجزائر مقاطعة من مقاطعاتها أورثها إياها جدُّها شارلمان, ذاك الصديق القديم للعرب, الذي بعث له هارون الرشيد بهدية هيَ )ساعة دقَّاقة) فظن الروم أن فيها شيطاناً رجيماً.
أقامت فرنسا في الجزائر 132 عاماً ولكنها لم تكن رخيَّة البال, فقد أشعل الأمير عبد القادر الجزائري عام 1834ثورة انطلقت من مدينة معسكر في الغرب الجزائري.
وفي الشرق عام 1913 أعلن عبد الحميد بن باديس عن مبادئه بهذين البيتين :
شعب الجزائر مسلم
وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن اصله
أو قال خان فقد كذب
وأسّس جمعية العلماء المسلمين لمقاومة الفَرْنَسة والحفاظ على عروبة الجزائر وقام بانشاء المدارس الابتدائية والثانوية لتعليم العربية وأصول الإسلام وكان ساعده الأيمن البشير الإبراهيمي الذي خلفه برئاسة الجمعية, وكانت تلك الجمعية النبع الثرّ الذي انطلقت منها فصائل الثوار, قال لي صديق من الأصنام يحيى بوشقور واسمه الثوري (الزبير) : )مثلما تعلمنا فنون القتال في الجبل تعلمنا القراءة والكتابة)
في العام 1945 سلط الفرنسيون على قسنطينة عاصمة الشرق الجزائري حمم قنابلهم من الأرض والجو يدمرون البيوت على رؤوس سكانها رجالاً ونساءً وأطفالاً فسقط خمسة واربعون الفاً من الشهداء في يوم واحد, منذئذٍ خلعت النساء في قسنطينة الملاءة البيضاء (الحايك) وصرن يتَّشحن بالسواد.
في العام 1954تشكلت جبهة التحرير واشتبكت مع المحتلين وفي الخامس من تموز (جولييه) من العام 1962 نالت الجزائر استقلالها بعد أن تكبدّت مليوناً ونصف المليون من الشهداء, وخسائر فادحة لاحصر لها.
في العام 1971 كنت مدرساً معاراً في ثانوية السلام بمدينة الأصنام (صار اسمها بعد الزلزال الشلف) وخرجتُ أتمشى في شارع النصر ففوجئت بامرأة عجوز محنية الظهر قادمة باتجاهي من طرف الرصيف تعربد محتدة وتضرب الأرض بالعصا, تشتم وترغي وتزبد بكلام لم أفهم منه كلمة واحدة, فجمدتُ في مكاني مصعوقاً حائراً والمرأة تقتربُ مني أكثر فأكثر
ماذا فعلتُ لها ?) فنكصتُ متراجعاً منسلاً إلى نهاية الرصيف وانعطفتُ مبتعداً. . لحظات وإذ بالمرأة تصل إلى المنعطف وتدور على نفسها وتتجه نحوي متابعة شتائمها وعربدتها.
اضطربت ووقفت مشدوهاً : ليس من اللائق أن أجري هارباً وإذا بيدٍ تمسكني من عضدي, فانجذبت, والتفتُّ وإذا بجلول /محاسب الثانوية/ يبتسم قائلاً:
حتى العشية فتأوي إلى كوخها وتهجع حتى الصباح ثم تعود إلى الشتائم تتخبّط في مأساتها وحدها لاتزعج أحداً.
في العشية دعاني جلول إلى العشاء ودعا معي أحد أصدقائه بوعلام, وفيما جلسنا نأكل ونشرب النبيذ بدأ بوعلام يمهِّد ليحدِّثني عن مآسي الجزائريين إبّان الاحتلال, وفيما قال جلول : )أرجوك يابوعلام, دعنا نتمتع بوقتنا )رنّ جرس الباب الخارجي, ثم فُتِحَ بابُ الغرفة, وأطلَّ ابنُ جلول مرتبكاً, وإذا برجل يدفع الباب من ورائه ويدخل مبادراً : )السلام عليكم ) وحمل كرسياً وجلس معنا قائلاً : ) أين كأسي ? ) قال لي جلول معرفاً
معمر ابن خالي )
وحاول إخفاء القوارير لكن معمر تصدى له بحدة وقهر ووعده: )ألا يشرب سوى نصف قدح ) وأترع كأسه برشاقة) وكرعه دفعة واحدة, ومدّ يديه يتناول الطعام بأناقة فيما ركن جلول وبوعلام متوجسين.
أطرق معمر لايرفع عينيه عن الطعام. يضع في فمه لقمة صغيرة, ويتلبَّث. وفجأة أخذ يبكي بقهر ومرارة, يبكي وينتحب. . وتحولت سهرة الأُنس إلى مسرحية تراجيدية, يلعبها ممثلٌ واحد. وأنا خجلت أن أسأل عن مأساة هذه الضحية. . وماأكثر أولئك الضحايا وما أقسى مآسيهم.
في المقهى تقدم نحوي رجل قوي البنية ومدّ يده يتسوّل. هممت أن أقول له : )عيب أنت رجل..) فهمس في أذني أحد الأصدقاء : ) أعطه أيّ شيء ودعه ينصرف)
إنك تحسّ بالذل والقهر, والخَوَر وأنت ترى إلى بقايا هذه المآسي التي لم ينجُ بيتٌ منها. والحقيقة أن فرنسا نشرتْ حضارتها في الجزائر ذات الطبيعة المتوسطية الساحرة والأرض الخصبة المعطاء, والثروات البترولية والمعدنية ولم تفعل شيئاً سوى: الفَرْنَسة والإذلال والقهر والتشويه النفسي والجسدي.