دراسة قانونية ل: حبيب الشرتوني اللبناني
تعيشُ المجتمعات الإنسانية ضمن إطار من القواعد السلوكية العامة، التي تنظِّمُ علاقات الأفراد ببعضِهم من جهة وعلاقتِهم بالمجتمع من جهة ثانية.
وهذه القواعد تختلفُ باختلاف المجتمعات وتعكسُ المفهوم العام للسلوك الاجتماعي في كل مجتمع. ولذا نرى أن أفعالاً معينة تشكلُ في بلدٍ ما " جرماً " ولا تشكل في آخر أفعالاً يعاقب عليها القانون.
والقانون الجنائي الذي يعطي للأفعال وصفها الجرمي، يتأثَّر بتطوُّر المفاهيم العامة لدى أحد المجتمعات ليتَّسعَ أو يضيقَ نطاقُه حسبما تمليه التحولات الطارئة عليه في فترة من الفترات أو حقبة من الزمن.
والغاية الأساسية من اعتماد كافَّة المجتمعات لقانون جنائي خاص بها، هو توفير الأمن الاجتماعي للمواطنين بتكريسِ القيَم الأخلاقية والسلوكية الاجتماعية الصحيحة بين الأفراد، بحيث تتحقَّق سلامة الإنسان في نفسِه وحياتِه لا سيَّما السياسية، وفي كرامتِه ومالِه ومركزِه الأدبي والاجتماعي. كما في سلامةِ ذويه وأقرانِه وبيئتِه الإنسانية والاجتماعية الطبيعية.
وهكذا يحددُ القانون الجنائي المبادئ التي توجِّه سلوك الفرد والجماعة في سبيل خير المجتمع والسير به نحو الأفضل وحمايته من الاضمحلال والانحلال، كما يحددُ الجزاء أي العقوبة التي تحِل بمن يخرج على هذه المبادئ الموضوعة لحماية الإنسان والمجتمع.
واتصال الإنسان بالمجتمع اتصالاً وثيقاً، ناجمٌ عن حماية كُل منهما للآخَر. وهو يجعل الإنسان المتحضِّر ذاتاً اجتماعية مكوَّنة من قيَم ومفاهيم مجتمعِه، وقد تفوقُ هذه الذاتُ بالنسبةِ إليه ذاتَه الشخصية، لأنه لا يختلفُ دونها عن الحيوان بشيء.
ومع تطوُّر المجتمعات وتطور فكرة الدولة بمفهومِها الحديث الرامي إلى حماية المجتمع والمحافظة على قيمِه، تطوَّر القضاء الجزائي وأصبحَ يمارسُ وظيفتَه الاجتماعية بتعمُّق وفهم. وأصبحت بالتالي الأحكام التي تصدرُها المحاكم، تبرزُ بشكلٍ واضح وصريح المفهوم الاجتماعي للجرم والغاية الاجتماعية عند فرض العقوبة.
وانطلاقاً من هذه الفكرة التي توصَّلت إليها المجتمعات، تمَّ اعتماد الأسس التي تُعطي للفعل وصفَه القانوني ، والتي تحددُ العقوبات الملازمة للأفعال الجرمية.
وعلى رأسِ هذه الأسس: الأخذ بعين الاعتبار الظروف الاجتماعية والشخصية التي أحاطت بالفِعل عند ارتكابِه، ودفعَت بالفاعل للقيام بِه.
فقد لحظَت من جهة كافة التشريعات حقَّ الفرد بممارسة حقوقه وإن كانت مصدر ضرر للغير، طالما أن هذا الضرر هو نتيجة طبيعية لهذه الممارسة. شرط أن لا يتجاوز في ممارسته لهذه الحقوق حدود حسن النيَّة.
وهكذا عرفَ التشريع الجزائي أسباب التبرير أو الإباحة التي تنزعُ عن الفعل الضار وصفَه الجرمي.
وقد لحظَت التشريعات من جهة ثانية الظروف المُشدِّدة أو المُخفِّفة للمسؤولية الجرمية، آخذة بالاعتبار الدافع الذي ارتُكِب من أجلِه الفعلُ الجرمي.
فالجُرم هو اعتداء على الفرد أو المجتمع، تختلفُ أهميتُه بقدر الضرر الذي يلحقُه بهما. أو بقدر الخطر الذي يشكلهُ الفاعل على المجتمع، الذي من شأنِه تهديد كيانِه ونظامه والأسس التي تقومُ عليها مؤسساتُه العامة والخاصة.
وبقدر أهمية الاعتداء وعدم مشروعية الدافع له، بقدر ما تأتي العقوبة أشدّ، تهدفُ إلى ردعِ المجرم أو عزلِه ووقاية المجتمع منه.
ومن هذا المنطلق عرفَ التشريعُ الجزائي التصنيف بين الجرائم (جنايات – جنح - مخالفات)
كما جرى التمييز بين الجريمة العادية والجريمة السياسية.
وإننا في دراستِنا لماهية الفعل الذي قامَ به حبيب الشرتوني ضدَّ " أفراد " ألحقوا بالمجتمع أشدَّ الضرر مُستعينين " بأعداء " هذا المجتمع، لتحقيق مآرب وغايات شخصية، سوف نحصرُ بحثَنا بموضوعين أساسيين.
الأول: هو حق الدفاع المشروع عن النفس والمجتمع الذي مارسَه حبيب، فنزعَ عن عملِه الصفة الجرمية.
الثاني: ( ويُبحث بصورة استطرادية ) هو اعتبار هذا العمل جرماً سياسياً، يشملهُ قانون العفو العام. دون الاعتداد بالاستثناء الوارد في هذا القانون لعدم دستوريتِه، ولمخالفتِه النظامَ العام.
إذاً في حق الدفاع المشروع:
يقول جان جاك روسو في " العقد الاجتماعي " إنَّ الإنسان عندما ارتضَى العيش في مجتمع منظَّم، تنازلَ عن جزءٍ من حقوقه وحريتِه بالقدر الذي يضمنُ حسن انتظام هذا العقد الاجتماعي وتنفيذَه وفقاً لمتطلِّبات السعادة الإنسانية.
فالأساس إذاً هو تمتُّع الإنسان بحريَّته، والقاعدة هي ممارستِه لكافة حقوقه.
أما تقييد حريَّته وتحريم ممارستِه لبعض حقوقه، فهو استثناءٌ وضِع فقط للحفاظ على حقوق الآخرين، ولتأمين مصلحة المجتمع.
والقانون فرضَ على المواطن موجبات، طلبَ منه التقيُّد بها وإنفاذَها نظراً لارتباطِها بتنظيم الحياة الاجتماعية. إلاَّ أنه أعطى في نفسِ الوقت - وكما جاء - للفرد الحق بممارسة حقوقه.
والحق المقصود هو الذي يحميه القانون ويوجِب تشريعَه لعدم تنافيهِ مع المبادئ الأخلاقية والاجتماعية والقانونية.
ومن بين هذه الحقوق التي كرَّسها المشرِّع وجعلَ ممارستَها بمنأى عن التجريم:
حق الدفاع المشروع عن النفس والمُلك، لردِّ اعتداء غير مُحقّ أو مُثار عليهما.
لقد اتفقَ معظم الفقهاء على أن الأساس القانوني الذي بُني عليه حقُ الفرد بالدفاع المشروع عن نفسِه أو ملكِه، نابِع من حقِّه في المحافظة على كيانِه الإنساني والاجتماعي وحمايتِه.
فإذا أحسَّ بخطر يهددُ حياتَه أو حياةَ غيرِه من الأفراد ومالَه أو مالَهم. وإذا أحسَّ بِه أيضاً يهدد المجتمع ككُل دون أن يكون هناك سلطة تقفُ بوجهِه، ودون استطاعته الاستعانة بسلطة لدرء هذا الخطر.
فإن من حق هذا الفرد أن يمارسَ الدفاع المشروع بنفسِه وبالوسيلة التي يستطيعُها، بالطبع حمايةً لنفسِه وغيرِه ومجتمعه.
ولقد توسَّع الفقهُ بحيث اعتبرَ أن حق الدفاع المشروع ليس فقط حقاً، بل يتعدَّاه ليصبحَ أحياناً، واجباً.
"… وهو بالتالي واجب عليه وعلى الدولة، وقد مارسَ هذا الواجب في الماضي بنفسِه عندما لم تكُن هناك دولة. أمَّا وقد قامت الدولة وأخذت على عاتقِها واجب حمايته، فإنَّ انفرادها في ممارسة هذا الحق يبقى قائماً ما دامت قادرة عليه. فإذا تعرَّضَ الفرد لظرف لم يكُن بإمكان الدولة التدخُّل فيه لحمايتِه، عادَ حق ممارسة الحماية إليه. فكما أنَّ الفرد فوَّض إلى الدولة حمايتَه، كذلك الدولة بإقرارِها حق الدفاع المشروع، تكون قد فوَّضت ضمناً للفرد حماية نفسه عندما لا تستطيع هي القيام بهذا الواجب. لذلك نرى أن الأساس القانوني للدفاع المشروع يكمنُ في التفويض الضمني الحاصل من الدولة إلى الفرد في حمايةِ نفسِه وملكه ونفس وملك الغير ورد الاعتداء عنهما عندما يتعذَّر على السلطة العامة القيام بهذا الواجب، بالنظر إلى الظرف الذي وقعَ فيه الاعتداء والوضع الذي وجِد فيه المعتدى عليه، فحال دون تمكنه من الاستعانة بالسلطة العامة. "
كتاب المسؤولية الجنائية - د. مصطفى العوجى ص 426 - 427
" وخلاصة القول: إن المجتمع وإن أخذ على عاتقِه حماية الإنسان في نفسه وماله، إلا أنه سمحَ له بتأمين هذه الحماية بنفسِه عند حصول الاعتداء عليه، إذا تعذَّر دفعُه بواسطة السلطة العامة، فيحُل محلها في ممارسة هذا الواجب الإنساني والاجتماعي. إنه تفويض من المجتمع للفرد لممارسة حق الدفاع المشروع عن النفس والملك، ليس فقط بالنسبة إليه ولكن بالنسبة للكافة، لأن حمايتهم واجب اجتماعي عام إن لم يتمكن المجتمع من تأمينِه بوسائلِه، قام به الأفراد أنفسهم وبتفويض منه. "
" فالأعمال التي تقوم بها السلطة في سبيل السلامة العامة مُباحة، وبالتالي لا تفقدُ هذه الأعمال صفتها هذه متى مارسها الأفراد بتفويض ضمني من السلطة عندما لم تكُن قادرة على القيام بها. وهذا ما يجعلُ الدفاع المشروع عن النفس والملك مباحاً ويحميه القانون. "
- نفس المرجع أعلاه ص 428 -
ولقد جاء نص قانون العقوبات اللبناني مكرِّساً لمبدأ الدفاع المشروع عن النفس إذ وردَ في المادة 184 من قانون العقوبات المعدَّل بالمرسوم الاشتراعي رقم 112 تاريخ 16/9/83
" يُعدّ ممارسة حق كل فعل قضتْ بِه ضرورة حالية لدفعِ تعرُّض غير مُحقّ ولا مُثار على النفسِ أو الملكِ أو نفسِ الغير أو ملكِه، ويستوي في الحماية الشخص الطبيعي والشخص المعنوي. "
ويبدو واضحاً من هذا النص أن المشرِّع اللبناني قد ساوى بين الدفاع عن النفس والدفاع عن المال كما ساوى بين الدفاع عن النفس والدفاع عن الغير في نفسِه ومالِه، كذلك ساوى بين حماية الشخص الطبيعي وحماية الشخص المعنوي.
" بما أن الأفعال التي تقومُ بها السلطة في معرض صلاحياتها لا تشكل جرماً، لذلك لا تتصِف بالصفة الجرمية هذه الأفعال عندما يُقدم عليها الأفراد بتفويض من السلطة وكأنهم يقومون بها من طرفِها وباسمها لمصلحة الجميع".
- نفس المرجع ص 435 -
على ضوء ما تقدَّم وبالمقارنة مع الواقع الحاصل في لبنان ابتداءً من عام 1975 .
نجدُ أن القتال المستمر بين الميليشيات المتحاربة، قد أدَّى إلى إضعاف الدولة وإلى إلغاء سلطتِها بحيث لم تعُد قادرة على فرضِ أو تنفيذِ أي قرار مهما بلغتْ أهميتُه.
وهكذا وجدَ المجتمعُ اللبناني نفسَه طيلة سنوات أسير حربٍ ضروس لا هوادة فيها، بحيث خسرَ من أبنائه حتى حزيران 1982 ما يزيد عن مئة ألف قتيل ، قضى العديدُ منهم في مجازر جماعية فاقت بوحشيتِها ما يمكن أن يتصوَّره عاقل.
وكما لم تكُن الدولة قادرة على ردعِ المتقاتلين ومنع ما يحدُث من مجازر، كذلك لم يكُن في مقدورِها إطلاقاً منع المتقاتلين من الاتِّصال بأعداء البلاد الإسرائيليين، أو فرض العقوبات عليهم بسبب هذا الاتصال وفقاً لنص القانون.
" كل لبناني دسَّ الدسائس لدى دولة أجنبية أو اتصلَ بها ليدفَعها إلى مباشرة العدوان على لبنان، أو ليوفِّر لها الوسائل إلى ذلك، عوقِب بالأشغال الشاقة المؤبدة. وإذا أفضى فعلُه إلى نتيجة عوقِب بالإعدام. "
قانون العقوبات المادة 274
" كل لبناني دس الدسائس لدى العدو أو اتصل به ليعاونهُ على أيِّ وجهٍ كان على فوز قواتِه عوقِب بالإعدام. "
قانون العقوبات مادة 275
رغم هذا كله، قامت فئة من اللبنانيين، على رأسها بشير الجميل بالاتصال بإسرائيل والعمل معها ومساندتها. وقد أفضت المساندة إلى احتلال إسرائيل للبنان. كل ذلك في سبيل تحقيق أهداف وغايات فردية وشخصية منها الوصول إلى منصب رئاسة الجمهورية بانتخاب صوَري، تمَّ تحت ضغط وتهديد جيش العدو وغاراتِه ودباباتِه ومدافعه.
وإن علاقة بشير الجميل والتنظيم المُسمَّى " القوات اللبنانية " علاقة ثابتة وأكيدة يعرفُها القاصي والداني. مما يجعَل عملَهُ وعمل التنظيم الذي كان يرأسُه واقعاً تحت طائلة قانون العقوبات وبالأخص المادتين المذكورتين أعلاه.
ومع هول الصدمة، وقف الجميع من كل الفئات مذهولين ومشدوهين، عدا قلة قليلة زادتْها المصيبة إيماناً بوحدة البلاد وبأصالة الشعب وبهشاشة الانتصار القواتي. ومن هذه القلة شابٌ في الرابعة والعشرين من عمرِه، أبتْ كرامتُه أن يستكينَ للذل، فنفَّذ إرادة الشعب والمجتمع في بشير الجميل وعدد من المتعاونين مع العدو.
ووقفَ بعدها وهو بين أيدي مضطهديه من القوات يقول في مؤتمر صحفي:
" لقد قتلتُه لأنه باعَ نفسَه لإسرائيل. "
وهكذا أنزلَ حبيب بغياب السلطة وبتفويض من المجتمع، عقوبةَ الإعدام بمرتكبي الجناية المنصوص عنها في المادتين 274،275 عقوبات. فكان بعملِه مدافعاً عن مصلحة الشعب والمجتمع، ودفاعه هذا مشروع ينفي عن عملِه صفةَ الجُرم.
وقد دفعَ ثمنَ موقفه الشجاع غالياً، كما دفعَ والداه وأقرباؤه ثمنَ ذاك الموقف الذي أنقذَ البلاد وصان حرية المجتمع.
ثانياً: في كونِ الجرمِ جرماً سياسياً يشملهُ قانون العفو الصادر عام 1991